لما كنت لااقول بانغلاقية النص ، او موت مؤلفه بعد فراغه من كتابته ، فقد انسقت وراء مابعثته في ذاكرتي بنية عتبة هذا النص العنوانية ( سقراط يموت واقفاً ) الموحية بإنسانية الثيمة ، من تداعيات قرائية لبعض آثار الكاتب الشعرية التي اطلعت عليها فإذاي اخلص الى انه قام بتناص داخلي ، بين هذه العتبة ، وعتبة اخرى موازية لها تركيبياً ودلالياً بعنوان ( السياب يموت غدا ) تعود لنص مخصوص الثيمة ، كان الشاعر قد كتبه سابقاً ، لتتشكل من هذا التناص ملامح نص غائب يشي بالمقاصد الحقيقية التي يضمرها ذلك النص السقراطي ،الذي سنشتغل على التعرف عليه في نهاية دراستنا ، ويتمظهر هذا التوازي العتباتي سيميائياً في عدة مستويات هي :

1 – مستوى البنية التركيبية لجملتيهما المتناسبتان* فيما يلي :

– تماثلهما في الثبوت والديمومة والاستقرار، فكلتاهما اسميتان .

– تشابه عناصر بناء الجملتين في سياقهما التعبيري ، عددياً / ثلاث اشارات ، تسلسلياً و تراتيبياً / تجاورياً ( اشغالها

ذات الموقع في الجملة ) ، وكما في هذه المقاربة الاسنادية لهما :

اشارة اسمية مسند اليها ( سقراط / السياب ) + اشارة فعلية مسند / يموت +الاشارة ( واقفاً / غداً ) اشارة قيدية تركيبية ( القيود : اشارات تحدد معنى الجملة ) مع وجود ( استبدال ) هنا .

– تماثل البنية الصوتية للاشارتين البؤرويتين ( سقراط / السياب ) ، على مستوى الوزن الايقاعي ، واصوات حروفهما الداخلية ، كما يلي :

– اوزن الايقاعي :

سقراطُ / سيّابُ ( بعد حذف ال تعريفها كونهما حرفين مزيدين ( :

كتابتهما نغماً : سُقْرَاطُو / سَيْيَابُو

تقطيعهما : متحرك / ساكن / متحرك / ساكن / متحرك / ساكن

وزنها : مفعولن

– اصوات حروفهما الداخلية :

سقراط ………: مهموس / مجهور / مجهور / مد / مجهور

سيّاب / سيياب : مهموس / مجهور / مجهور / مد / مجهور

2 – مستوى البنيتين النحوية والزمانية :

تطابق الاشارتان البؤرويتان ( سقراط / السياب ) في نوع التعريف والموقع الاعرابي كلاهما مبتدأ / اسم علم ، خبرهما ذات الجملة الفعلية / يموت ، و مضارعية الفعل دلالة على استمرارية اثره في الوقت الحاضر مع انفتاحه على المستقبل .

3 – مستوى البنيتين الصرفية و الدلالية :

– سقراط : في سياقها المقامي / تاريخ الفلسفة :

– الاشارة يموت : دالة فعلية ، مخادعة مضللة في حقيقة داليتها ، فحقيقة البنية الصرفية لفعلها الثلاثي المجرد مبنية

للمجهول / مِيتَ ، لا مبنية للمعلوم / مات ،لأنه من الافعال المبنية لغير فاعل (على غرار : أُغميَ عليه ، جُنَّ ، وُلِدَ ، أُعدِم …الخ ) ، وهذا يعني ان هناك فاعلاً حقيقياً متوارياً هو من يقرره ويقدّره على اخر ظاهر في الجملة ظهوراً مجازياً ،فحين نقول مات فلانُ بالسيف : ففاعل وعلة ( الاماتة ) الحقيقي هنا هو السيف الذي سلب حياة ( فلان ) الذي توهمنا الفاعلية فيه لوروده مرفوعاً بعد الفعل ( مات ) ، واسناد فعل الموت الى مسند اليه متوهّم ماهو الا تساند غير حقيقي ، وهذا الفاعل المتوارى ، اما ان يكون عاقلاً ( شخص ما / 0.الآمر بالإماتة ) ، او غير عاقل ( مرض ، حادث ، الخ ) ، فما من كائن حي يملك ان يتحكم بفعل ( الموت ) تقديراً او تقريراً ، الا بأن يخرجه من لزوميته ، وتعديته بإحدى الصيغ الصرفية المعروفة كالهمزة الاولية ، فنقول مثلاً : أماتَ الجفاف الزرعَ ، يُميتُ ) وهنا لابد ان تغدو جملة العنوان/ سقراط يُميتُ نفسه واقفا ) وفي هذه الصياغة ضعف حبكة ، فإماتة النفس / كمدلول ، يدل عليه معجمياً الدال / انتحر ، فتكون الصياغة اللغوية الانسب / سقراط ينتحر واقفاً ، لكن استخدام الشاعر لصيغة المبني للمعلوم ( يموت ) عنوانيا ، انما كان بقصدية الايحاء ان سقراط هو من قدّر الموت على نفسه بشمم ( واقفاً ) حيث قام الشاعر هنا بالتناص مع قصدية واقعة الموت السقراطي ( تناول سقراط السم المميت ، رغم مااتاحه له طلابه وانصاره من اسباب الهروب من سجنه ، قاصداً تأكيد حياة افكاره من بعده ) .

اما عتبة عنوان النص المتناص معه ( السياب يموت غداً ) : فهي ذات اشارات متعارضة ظاهرياً ، فالسياب كدال ، اشارة لها مدلولان :

ـ إحدهما لغوي : لقب انسان ( بدر شاكر ) مات بايولوجياً ( غياب نهائي لوظائفه الجسمانية ) ، و غادر الحياة ( الغياب الجسدي ) ، منذ اكثرمن خمسة عقود ، والاشارة الظرفية المستقبلية ( غداً ) تتعارض مع هذا المعنى زمانياً .

ـ والآخر سياقي المقام : شاعر مبدع مجدد متعارض مع طغاة الحكام ، له رمزية و قيمة انسانية عابرة للزمن ( شاعر رساليّ متجدد الحضور ) ، وبالتالي تخرج الإشارة ( يموت ) ، من دلالتها التوقُّفية المادية ( الانطفاء العملياتي للاجهزة العضوية الفسلجية للكائن الحي ، وانتهاء زمنه المعاش ) ، الى رمزيتها الايحائية التصوُّرية ( الموت المعنوي / تغييب / محو الأثر ) ، وهو هنا موت مؤجل بدلالة ( غداً ) ، إيماءة إيحائية ، بوجود إرادةٍ ما قضت بإنقبار وإمّحاء اثار الرمزية السيابية ، كقيمة ( إنساشاعرية ) وطنية ميتا زمانية ، من الذاكرة والحياة ( الثقافكرية) العراقية ، وهي إرادة ( اخر ) نافذ القرار ، ولابدّ أن يكون :

سلطوياً ( فهو وحده من يقرر مصائر الآخرين ) .

مؤدلجاً ظلامياً ( بدلالة قراره الإفنائي لآثار تلك الرمزية التحررية التنويرية.

شمولياً ( لأنه لايتقبل نقيضه وجودياً ) .

التوازي بين الاشارتين ( يموت ) في العنوانين المذكورين ، متحقق في تقابل ارادة ( الانا ) السقراطية ، وارادة ( الهو ) الاخروية ، كما ان كلتي الاشارتين متعارضتا الدلالة الاولى / موت جسدي والثانية معنوي

4 – مستوى تشفير المضمون العتباتي الاحالي للنص .


سقراطُ يموتُ واقفاً !


يبابٌ

يرقبُ غيمةً في ساعةِ طَلْق . . .

أقزامٌ

يقتسمون هواءَ المدينة . . .

تموجُ بما لم تألفْهُ من قبلُ أروقةُ المشائين . . .

من أينَ جاءَ هذا الدّميمُ بأتعسِ ما رأتْ عيونُ النّهار؟

يقلِبُ ما قد غارَ في جماجمَ مذ التصقتْ بها الأسماء . . .

قيّدوه . . .

إنًّهُ يُلقي الحَصى في بحيرةٍ راكدة . . .

يُفسدُ علينا ما نحنُ فيه . . .

لا تدَعوا لهُ قدَماً في مجلس

فانفاسُهُ غيرُ الأنفاس . . .

إنَّهُ ينتصرُ لدمامتِه

بخرقِ ما نراهُ جمالاً !

. . . . .

قُضاةَ القصر

بيدِكم تُستَلُّ من تحتِ لذتِها الخطيئة

يُدارُ دولابُ القَرارِ لبوصلةِ الشّرفةِ المُنيفة !

حيثُ الظّلامُ يصنعُ توابيتَ بلا أسماء . . .

مالكم

علقتُم الكلمةَ من ثدييْها

حتى تساقطَ لحمُها في أفواهِ السّفهاء !

كأنَّ الأمسَ روحٌ مقدسةٌ لا تُمسّ

تُحرقُ حولَها الفصولُ الأربعةُ بخوراً بترتيلةِ الوَلاء . . .

خذوا هذهِ التي أتنفسُ بها

لكنَّكم لنْ تأخذوا ما باحتْ بهِ لهذا الكون . . .

تبّاً لعصرٍ

يُخنقُ على الأشهادِ شاهدُه . . .

. . . . .

لم يعلُ الموتُ قامتَهُ القصيرة

اصطحبَهُ بثباتِ قِممٍ

يرتقيها

لكنَّهُ

يظلُّ بجوارِها مملوكاً . . .

يَسرُّهُ :

لا يليقُ بعظمتِكَ أنْ تكونَ تافهاً إلى هذا الحدّ . . .

بئسكَ أنْ تُسكبَ سُمّاً في قعبٍ من فخار . . .

أغلقَ عينيْه . . .

القابعون فوقَ التّل

ليسَ لهم أنْ يقتربوا من حافرِ بَغل . . .

ليتَّهم يغادرون خوفَهم قليلاً

ليروْا أنَّ الحرَّ حينَ يموت

يُكفَّنُ بورقِ الشّمس !

صرخةُ الأمواتِ

تسمعُها إذنُ الطّغاةِ فقط !

. . . . .

السُّمُّ

يرسمُ لوحةً مفتوحةَ الأبعادِ

تُرى بعينِ كُلِّ العصور . . .

ليسَ كوجهِ أثينا وجهٌ

تغادرُهُ كُلُّ الألوان جليداً أسود . . .

رجعتِ الشّمسُ إلى بيتِها بحفنةٍ من حزن . . .

كيفَ يُقشطُ ندمٌ تخثّرَ في حنايا مُعتمة ؟

لاتَ حينَ نَدم

فلا يُغفرُ لسهمٍ خرقَ حنجرةً

هتفتْ لانسانيّةِ الإنسان !

. . . . .

عبد الجبار الفيّاض

نيسان / 2019

تم عمل هذا الموقع بواسطة