تم استدعاء والدي للخدمة العسكرية، لم اكن بعد اتعرفُ على ملامح وجهه، كانت الفرشاة رفيقه الوفي، كان يُدخن

كثيراً ويعاقر الخمرة بشدة اكثر من أُمِنا، فجئنا مرتبين كأيام الحرب وحسب ما تهوى فرشاه، رسم يوماً زجاجة حليب ركض اطفال الحي نحوها لكنها لن تكن سوى قطعة من قماط اخي آخر العنقود، رجعوا خائبين الى احضان الامهات.

أنتهت الحرب وتاب أبونا ولم تعد أُمنا تنجب اولاداً ،صار أبي يشغل منصبا رغم الشتم المتلاحق والنعت اللاذع يبيع الكتب ويعلم الصبية الرسم ..كان كثيرا ما يٌشكر الفقر والخوف لانهما لا يفسدان الاخلاق، ويستمد الصبر والعزاء كلما لاح الغروب بعباءة الآلام...

لم يعد اللون الخاكي المفضل لدينا... زرعنا ثمان فسائل من البرحي بعدد سني الحرب لعل الدموع تُزهر قمحاً للاولاد

......................................

القراءة  :

النص يصنف ادبياً كسرد تعبيري بلغة تقرب من الشعرية في العديد من عناصرها الفنية ، اكثرها تمظهرا في سطحها النصي ، اتكاء بنيتها الدلالية على تقنيتين تعبيريتين متكاملتين في سياق احالي خارجي

الاولى ـ   التقابل التضادي  الباعث على التوتر الداخلي المقلق ، كما في :

ـ الخدمة العسكرية ( اشارة مولدة لدوال فعلية بشعة ) /  الفرشاة ( مولدة لدوال حسية جمالية ) 

المقاربة المعنوية :

توتر ذاتي داخلي  ركناه المتضادان : الخضوع القسري  ( مثير خارجي قاهر / تم استدعاء  ) / استجابة طوغية ( مثير داخلي محبب / حسب ماتهوى  ) ،

المكافئ الدلالي : الحرب سبب  التصدع النفسي

ـ ركض ... نحوها  ( اشارة لطلب حاجة حياتية اساسية مفقودة بدلالة / زجاجة حليب  ) / رجعوا  ( اشارة لفشل المسعى بدلالة /  خائبين )

الرابط الدلالي : حضن الامهات / ملاذ الاطفال الجائعين

المكافئ الدلالي : الحرمان وهو نتيجة اخرى عن الحرب

الثانية ـ تقنية الترميز العباراتي ( اي الرمزية التي توحي بها العبارة كاملةً ) كما في :

ـ  ( كان يُدخن كثيراً ويعاقر الخمرة بشدة ) : باستحضار ( التصدع النفسي ) اعلاه يتولد هذا التعالق المعنوي بينهما : الهروب من القلق الداخلي الى ما يشغل الوعي  عن استحضار  المثير الخارجي

ـ (أنتهت الحرب وتاب أبونا ولم تعد أُمنا تنجب اولاداً ) : انتهاء الحرب هنا لها رمزيتان

1ـ مسبب للتصدع النفسي ، كما مر بنا ، وبانتهائها  انهت التعالق المعنوي السابق  فكانت التوبة ( تاب ابونا ) عودة عن فعل غير محمود وغير شرعي دينيا ( معاقرة الخمرة ) فالتوبة هنا احالية خارجية ذات سياق ديني : معاقرة الخمرة رجس يعود على المعاقر بالاثم الذي يستوجب الحصول على المغفرة عنه بالتوبة منه .

المعنى المسكوت عنه : الحرب من اسباب فتنة المؤمن

2 ـ الرمزية الثانية : حاجة السلطة للمزيد من المقاتلين لتعويض من تغيبهم الحرب بالموت ، الاسر ، الفقد او التعويق الدائم  ، فتفرض على الشعب ( زيادة الانجاب ) وهذه الدلالة احالية للخارج كذلك / سياق تاريخي ( الحرب الايرانية العراقية بعد استدعاء الاشارة المركبة  ( ثمان فسائل من البرحي بعدد سني الحرب ) ، حيث قررت سلطة النظام البعثي حينها منح  (   مخصصات مالية )  للموظفين و العاملين في دوائرها ، عن كل مولود جديد يولد لهم لتشجيعهم على ذلك .

وانتفت هذه الحاجة بانتهاء الحرب  ،  (  ولم تعد أُمنا تنجب اولاداً )

ـ ( رغم الشتم المتلاحق والنعت اللاذع يبيع الكتب ويعلم الصبية الرسم .) : بالاحالة الخارجية على السياق السابق :  نشر المعرفة والفن الجميل بين العامة  ، كان فعلاً مرفوضاً خارج مؤسسات السلطة الحاكمة ، يعود على صاحبه باللعنات

ـ ( لم يعد اللون الخاكي المفضل لدينا.) : احالية على ماسبق / ظل ( الخاكي ) هو اللون الطاغي على المشهد ( السوسيو سياسي ) العراقي حتى سقوط نظام البعث

ينتهي النص بجملة عتبته العنوانية  (  الدموع تُزهِر قمحاً ) لكنها سُبقت بـ ( لعل )

ذلك الحرف الذي ارتبط في الذاكرة العراقية برجاء لايلد الا رجاء .....

تم عمل هذا الموقع بواسطة